X

قراءة نقدية في أعمال مي زيادة

قراءة نقدية في أعمال مي زيادة
الأربعاء 28 غشت 2019 - 19:04
Zoom

بقلم: هشام حسنابي

 

وصفت نفسها في رسالة إلى صديقتها رائدة الصحافة اللبنانية جوليا طعمة دمشقية تقول فيها:

** أصحيح أنك لم تهتدي بعد إلى صورتي فهاكها استحضري فتاة سمراء كالبن او كالتمر الهندي كما يقول الشعراء او كالمسك كما يقول متيم العامرية وضعي علية طابعا سديميا فليسمح لي البلاغيون بهذا التعبير من وجد وشوق وذهول وجوع فكري لا يكتفي وعطش روحي لا يرتوي يرافع ذلك جميعا استعداد كبير للطرب والسرور واستعداد اكبر للشجن والالم. 

**هذا هو الغالب دوما واطلقي على هذا المجموع اسم مي تري من يساجلك ساعة قلمها

انها مي زيادة الكاتبة والشاعرة والمترجمة والصحفية اللبنانيه والفلسطينية والمصرية او انها مي زيادة سيدة اللام وفريدة العصر نادرة الدهر وملكة الإلهام أميرة البيان وحلية الزمان أميرة النهضة الشرقية حسب اوصاف أبرز اعلام النهضة امثال مصطفى عبد الرازق وشكيب ا رسلان وعباس العقاد ومصطفى صادق الرافعي وخليل مطران لم يشهد تاريخ الثقافة العربية الحديثة منذ بداية القرن وحتى ثلثه تقريبا ظاهرة كظاهرة مي زيادة المرأة التي ابدعت في القصة والشعر والمقالة وجعلت من بيتها منتدى اسبوعيا ارتادته اهم النخب العربية في مصر لمدة عشرين عاما.

الشيخ مصطفى عبد الرازق شبل شميل اسماعيل صبري مصطفى الرافعي عباس محمود العقاد أحمد لطفي السيد خليل مطران شكيب ارسلان طه حسين امين الريحاني سلامة موسى يعقوب صروف وغيرهم الكثير.

ومما يميز صالون مي أنه شهد أكثر الحوارات حيوية بين المختلفين فلهذا فقد وصفه طه حسين بالصالون الديمقراطي.

تميزت مي زيادة على ثقافة مزدهرة جدا فهذه التي تخرجت من مدرسة الراهبات واتمت تعليمها في كل صنوف المعرفة فضلا عن أنها اجادت الى جانب العربية التي احببتها الانجليزية والفرنسية والالمانية والإسبانية واللاتينية التي سمحت لها هذه المعرفة بأن تتعرف على مجمل الثقافة العالمية المزدهرة آنذاك من أدب وفكر وفلسفة.

فبرز انتماءها للحداثة بكل معنى الكلمة وتجلى هذا الانتماء في كل ما كتبت من شعر ومقالة وكتب وما قامت به من نشاط في المجتمع المصري لكي نفهم مي حق الفهم يجب أن نربطها بنهضة ذلك الزمان فقد عاشت هذه الأديبة ذروة عصر النهضة وقد ظهرت مؤلفاتها في فترة تميزت بالخصوبة الفكرية والتفاعل الثقافي العميق والحار سواء مع الثقافة الغربية أو بالحفر في الثراث العربي الإسلامي

انه زمن محمد عبده واحمد لطفي السيد استاذ الجيل وصديق مي إنه زمن ذرية الشقيق وسيزا براون وسعد زغلول زمن قضية تحرر المرأة التي توجت بكتابي قاسم أمين تحرير المرأة والمرأة الجديدة زمن ظهور كتاب طه حسين في الشعر الجاهلي وكتاب علي عبد الرازق الاسلام واصول الحكم انه زمن التنوير بحق.

أصدرت مي زيادة أول ديوان شعري باللغة الفرنسية عام 1911تحت عنوان ازاهير حلم نشرته باسم مستعار هو ازيس كوبيا كما نشرت بالانجليزية ديوان الظل على الصخرة تم توالت مقالات واشعار ومحاضرات وخطب ورسائل مي زيادة حتى إكتملت بخمسة عشر كتابا منها سوانح فتاة ظلمات واشعة المساواة بين الجزر والمد الحب في العذاب كلمات واشارات كما الفت مي زيادة كتبا عن هدى شعراوي وملك ووردة يازجي وترجمت ثلاثة كتب منها كتاب ابتسامات ودموع الذي ترجمته عن العلمانية اما اللغز الاكبر الذي ضاع وضيع من اعمال مي زيادة فهو المذكرات وليالي العصفورية.

انطفأت شعلة الصالون بانكفاء مي زيادة عن الحياة والكتابة اثر وفاة والديها فدخلت مرحلة بالغة الصعوبة عانت فيها من الاكتئاب وهي كما كتبت تخشى الحب لان القليل منه لا يرضيها ولذلك جاء اكتئابها عنيفا قاسيا وادخلتها عائلة أبيها رغما عن ارادتها مستشفى الأمراض العقلية في لبنان او ما تسمى بالعصفورية.

رجت مي الحياة الاجتماعية والثقافية رجا خطيرا عندما تدخلت الى العصفورية فتخلى عنها اصدقاؤها في مصر ووقفت معها جريدة المكشوف و كذلك اسر دمشقية مثل ال القواتلي والعدلاني والايوبي بالإضافة إلى فارس الخوري وامين الريحاني فتوجت المعركة الإنسانية والاجتماعية والثقافية الكبرى معركة العصفورية بانتصار الابداع والمبدعة.

على الرغم من الود المكين بين مي زيادة وطه حسين فقد وقفت ضد أفكاره في ندوة المرأة والحضارة وفي تقديم بعض الدارسين أن السجال الثقافي العنيف بين عباس محمود العقاد ومصطفى صادق الرافعي لم يكن بسبب الثقافة وحسب بل لمنافستهما على قلب مي زيادة فذابت الفروق بين الشخصي والثقافي بدات قصة الحب الكبرى بينها وبين جبران ونمت من قراءة كل من العاشقين لكتابات الاخر.

هكذا رسائل جبران لمي استجابة إبداعية متميزة لما كتبت مي زيادة كما العكس احبا بعضهما ولم يلتقيا قط فاحدهما في نيويورك والآخرى في القاهرة فظلت علاقتهما بالمراسلة فقط ولذلك كان لمحاضرات مي زيادة دائما دويا كتلك التي كانت للجامعة الأمريكية في بيروت او في القاهرة حيث تصطخب المناقشات وتتعدد وتتفاعل المواقف.

لأن تاثير مؤلفات مي زيادة كان عميقا في الثقافة العربية فقد وضع عدد كبير من الكتاب والكاتبات دراسات عن تلك المؤلفات، مثل محمد عبد الغني حسن في كتاب مي أديبة الشرق و العروبة وسلمى الحفار الكزبري في مي زيادة واعلام عصرها وحسين عمر حماده في احاديث عن مي زيادة واسرار غير متداولة من حياتها واخرين مثل عبد اللطيف شرارة ونوال مصطفى وفاروق سعد ومهى خير بيك عدى عن عشرات رسائل المجاستير والدكتوراه و مئات المقالات.

لا يزال تاثير مؤلفات مي زيادة و وشخصيتها فعالا في الثقافة العربية لعل رواية وسين الاعرج بعنوان مي ليالي ازيس كوبيا خير مثال فقد بنى الكاتب روايته بناءا على مخطوطة مي زيادة الضائعة ليالي العصفورية وهناك رواية دارين الجندي والصادر بالفرنسية تحت عنوان سجينة المشرق.

أما في عهد مي فلم يكن ما قاله فيها الكتاب والشعراء متعلقا بشخصيتها بقدر ما كان متعلقا باعمالها اولا فقد كانت المنسقة الاولى في مواد النقاش في صالونها كما كانت من ابرز المشاركين فيه.

لقد اسهمت اعمال مي زيادة في احياء فن الشذرات التراثي واذكاء فن المراسلة كما اقتحمت الصحافة وكتبت في قضايا المرأة والحب والأسرة والطفولة وسواها ولذلك كله صنفها الدكتور منصور فهمي بالفيلسوفة الحساسة الخاشعة لاسرار الوجود.

لقد عقد انيس منصور في صالون العقاد كانت لنا ايام فضلا عن مي زيادة له عنوان دال* مي زيادة عن اللزوم *وهو يشير إلى مأساة المبدعة الجميلة التي كان الجميع يحبها في السر و يتبرأ منها علنا، لهذا انتهت في مستشفى الأمراض العقلية وهو المصير الذي سبق أن انتهت آليه الكاتبة السورية مريانا مراش وهي الاخرى صاحبة صالون ادبي

مي ضحية مجتمع ذكوري لا تنفع فيه الموهبة ولا تشفع لصاحبته.

رسالة الاديب تعلمنا أن لا نخشى كارثة ولا نتهيب مغامرة كل زمن خطير في التاريخ كان زمن اضطراب وكوارث واعظم فوائد الانسانية نجمت عن عصور العذاب والخطر ولا يعرف شأن ذي الشأن الا يوم الكريهة.


إقــــرأ المزيد