-
11:05
-
10:56
-
09:41
-
09:34
-
09:23
-
09:06
-
08:47
-
08:33
-
08:11
-
06:35
-
06:06
-
05:28
-
04:55
-
04:12
-
03:27
-
02:37
-
01:48
-
01:09
-
00:21
-
23:48
-
21:52
-
21:31
-
21:21
-
20:43
-
20:08
-
20:05
-
19:56
-
19:34
-
19:02
-
18:42
-
18:26
-
18:20
-
18:02
-
17:46
-
17:30
-
17:03
-
16:44
-
16:26
-
16:12
-
16:05
-
15:32
-
15:30
-
15:21
-
15:02
-
14:56
-
14:42
-
14:19
-
13:57
-
13:35
-
13:33
-
13:18
-
13:02
-
12:47
-
12:36
-
12:23
-
12:04
-
11:49
-
11:35
-
11:23
-
11:20
-
11:14
تابعونا على فيسبوك
"تنضجُ الأفكار كما تنضجُ الثمار والناس، فلا بُدّ أن نمهِلَ الوقتَ وقتَه"
تحدث في السياسة لحظاتٌ تبدو فيها الأحداث أسرع من رد فعل العقول، والضجيج أقوى من المعنى، فيخيّل للناس أن الحاضر قادر على أن يُملي على المستقبل قراراته قبل أن يفهم دروس الماضي. في مثل هذه اللحظات، تختلط العجلة بالحيرة، وتتيه البوصلة بين الوقت القصير والزمن الطويل، فينسى الجميع أن الزمن هو المادة الأولى للسياسة، وأعْقد عناصرها على الفهم. فالحكم لا يُقاس بما يُعلن، بل بما يبقى، والسياسة ليست إدارةَ شأنٍ يوميّ، بل هندسةُ مسارٍ من الزمن، حيث يُقاس الفعل بمدى امتداده، لا بحدة صداه.
الوقت وحده كفيل
قال فرانسوا ميتران: " تنضجُ الأفكار كما تنضجُ الثمار والناس، فلا بُدّ أن نمهِلَ الوقتَ وقتَه. "
جملة قصيرة، لكنها تختصر فلسفة كاملة في الحكم. فالزمن ليس انتظارًا سلبياً، بل فعلٌ واعٍ، وصبرٌ منتِج، وامتحانٌ لقيمة القرار. في زمنٍ تتقلّص فيه الحكمة إلى 280 حرفًا، ويُحوَّل فيه الصمت إلى اتهام، وتُقاس فيه الإصلاحات بسرعة انتشارها لا بعمق أثرها، يصبح الإمهالُ نفسه فعلًا سياسيًا ناضجًا. لأن الزمن لا يُترك للصدفة، بل يُنظَّم ويُستثمر ويُبنى.
فالزمن، في جوهره، جسرٌ بين الذاكرة والرؤية. تساءل أرسطو قديمًا: أهو من الأشياء التي "تكون" أم من تلك التي "لا تكون"؟ فالزمن مركّب من ماضٍ مضى ومستقبلٍ لم يأتِ بعد، وما يبقى منه إلا لحظةٌ عابرة لا تُرى بالعين، لكنها تجمع بدايات الأشياء ونهاياتها. تلك اللحظة، بكل هشاشتها، هي التي تصنع معنى السياسة وتحدّد نَفَس التاريخ.
السياسة، في نهاية المطاف، فنّ الإيقاع. لها فصولها، ودوراتها، وبذورها وحصادها. والمغرب يعيش اليوم فصلًا من هذا النوع: انتقالٌ صامتٌ تتقدمه ضوضاء الشاشات وثرثرة المنصات، لكن خلف هذا الصخب تستمر حركة عميقة تعيد تشكيل الدولة والمجتمع معًا: في الصحة، والتعليم، والحماية الاجتماعية، ورقمنة المرافق العمومية. أوراشٌ لا تُقاس بساعاتٍ أو أسابيع، بل بأجيالٍ كاملة.
المُعلِّم الكبير
قال بيير كورنيي قبل قرون:
"لِنُنظِم أمرَ الحاضر، وأما المستقبل فلكل مقامٍ مقال؛ فالوقت وحده كفيل، وهو المُعلِّم الكبير."
تلك حكمة تصلح اليوم كما صلحت بالأمس. فالمغرب، عبر العقود الأخيرة، اختار أن يبني سياساته على مبدأ الاتزان لا الارتجال، وعلى الإصلاح بالتدرّج لا بالقفز. لم يكن مسرحًا للحظة، بل مشروعًا للمدى. في هذا السياق، يصبح التحدي الحقيقي هو مقاومة إغراء السرعة، والإصرار على تنظيم الحاضر ليكون أساس المستقبل.
فلاش باك
لم تكن هذه المرة الأولى التي تثور فيها الأجيال بشعاراتٍ حادةٍ وأحلامٍ وردية. في ماي 1968، صاحت الجامعات الفرنسية: «كلّ شيء سياسيّ»، واعتقد الشباب آنذاك أن بإمكانهم قلب كل شيء دفعة واحدة. لكن التاريخ علمهم لاحقًا أن التحوّل الأعمق لا يحدث بالصراخ، بل بالتراكم، وأن الأفكار تُحدث ثورتها حين تتسلل بهدوء إلى نسيج المجتمع، لا حين تشتعل في الشارع.
اليوم، يعيش المغرب رجّةً شبابية مشابهة في ظاهرها ومختلفة في جوهرها. جيلٌ متّصلٌ بشبكات التواصل الاجتماعي، لكنه أحيانًا منفصلٌ عن الزمن السياسي. مطالبه في جوهرها مشروعة، لكن خطابه يميل إلى القطيعة أكثر من الاستمرارية. غير أن الديمقراطية لا تنمو بالقطيعة، بل بالدوام، ولا تُصلح الدولة بالانسحاب منها، بل بالإصرار على بنائها.
الاحتجاج حق، والغضب مفهوم، لكن الزمن السياسي لا يتبدّل بالإحساس، بل بالمؤسسات. والدولة التي تُصغي دون أن تنكسر، وتُراجع دون أن تتراجع، هي دولة تعرف قيمة الزمن في ترميم الثقة وحماية الاستقرار.
زمن الدستور
ظنّ بعض الغاضبين أن إسقاط الحكومة أمرٌ يُنفّذ بقرارٍ لحظيّ، لكن السياسة لا تشتغل بزرّ الانفعال. فالقانون، مثل الحكمة، لا يطيع العاطفة. دستور 2011 وضع ميزانًا دقيقًا بين الاستقرار والمحاسبة. الحكومة ليست رهينةً لتقلّبات الشارع، كما أن الشارع ليس بلا صوت. فالتوازن بينهما هو ما يحفظ الدولة من الفوضى.
الحكومة لا تسقط بشعارٍ ولا بهاشتاغ. لها آلياتها الدستورية الواضحة: استقالة، أو تصويت، أو مشاورات. ما دون ذلك مجرد خيال سياسي. والخيال في السياسة خطرٌ إن لم تحكمه القوانين.
هذه القراءة الباردة ليست جفاءً تجاه الشارع، بل هي الشرط الأول لاحترامه. لأن الدولة القوية هي التي تتيح للمشاعر أن تتكلم دون أن تهدم المؤسسات التي تحميها. فالاستقرار ليس امتيازًا، بل واجبٌ وطنيّ، ومن يخلط السرعة بالحيوية لا يرى الفرق بين الحركة والارتباك.
دروس التاريخ وإيقاع الإصلاح
كل أمةٍ تعرف اهتزازاتها. عرف المغرب لحظاته الخاصة: رياح الربيع العربي سنة 2011، احتجاجات الريف 2016، زلزال الحوز 2023، واليوم حراك جيلٍ جديد في زمنٍ رقميّ. وفي كل مرة، اختار المغرب أن يُصلح لا أن يُهدم، أن يُراجع لا أن يتراجع.
هذه القدرة على الإصلاح المتدرّج هي ما جعلت المغرب مختلفًا عن محيطه. لم ينجرف إلى الفوضى، ولم يغلق أبواب التغيير. سار بخطى واثقة في ممرّ ضيّق بين الهدوء والجرأة، لأن الزمن عنده ليس عائقًا، بل وسيلة. فالزمن في السياسة المغربية ليس وقتًا يُهدر، بل إطارٌ يُبنى داخله التوازن بين الاستقرار والتطور.
وهمُ المدى القصير
في العاصفة الأخيرة، رأينا من السياسيين من سبق إلى الكلام قبل التفكير، ومن استبدل الفعل بالتصريح. آخرون داخل الأغلبية اختاروا ركوب الموجة، ظنًّا منهم أن الضوضاء درعٌ يحميهم من المساءلة. غير أن السياسة حين تتحوّل إلى مسرحٍ للصور تفقد معناها الحقيقي.
المغرب لا يحتاج إلى متحدثين، بل إلى صانعين. فالأصوات العالية تُنسى، أما الأفعال الهادئة فتبقى. هناك من يشتغل من أجل اللحظة، وهناك من يزرع من أجل الذاكرة. والتاريخ لا يكرّم من صرخ أكثر، بل من بنى بصمتٍ أطول.
أما المعارضة، فهي كمن ينظر في مرآةٍ يظنها نافذة. ترى في كل أزمة فرصةً للظهور، لكنها تنسى أن المرايا لا تُضيء، بل تعكس فقط ما أمامها. النقد سهل، أما البناء فيحتاج إلى زمن، والزمن لا يُعطي ثماره إلا لمن يزرع.
إيقاع الحكومة
منذ أربع سنوات، اختارت الحكومة مسارًا صعبًا وواضحًا: إصلاحات هيكلية، رؤية مالية، ورقمنة واسعة... تمشي بسرعة الممكن لا بسرعة المرغوب.
أبرز هذه الأوراش ورشُ إصلاح النظام الصحي، الذي يُثبت أن التغيير ليس قرارًا إداريًا يُتَّخذ، بل ثقافة جديدة تُبنى. فالمشاريع الكبرى لا تُصدر بمرسوم، بل تُرسَّخ بالممارسة وبالزمن. والرقمنة مثالٌ على ذلك: لا تُفرض بقرار، بل تُغرس بتربيةٍ مؤسسيةٍ على الدقة والشفافية. وكذلك في التعليم، والحماية الاجتماعية، وتشغيل الشباب؛ كلها أوراش تُثمر ببطء، لأن نتائجها تُقاس بحياة الناس، لا بخطاباتهم.
قد يُسخَر من هذا البطء، لكنه بطء الضرورة، بطء البناء لا الجمود. فـ"زمن النتائج" لا يشبه "زمن الإعلانات".
التاريخ لا يحفظ أسماء المتحدثين، بل إنجازات البنّاة
في زمنٍ طغت فيه الكلمات على الأفعال، أصبح الصمت نوعًا من الشجاعة.
عزيز أخنوش يجسد هذا النمط من القيادة التي تترك للفعل أن يتكلم. كثيرون يخلطون بين التريّث والغياب، بين الصمت واللامبالاة، لكن التاريخ يُذكّرنا أن القادة الكبار لم يكونوا دائمًا الأكثر كلامًا، بل الأكثر ثباتًا.
هناك من يعلّق على العاصفة، وهناك من يمسك بالدفة.
أسلوبه الهادئ ليس ضعفًا في الحضور، بل اختيارٌ للزمن المناسب للكلمة. فالكلمة، إن لم تكن مؤسَّسة على الفعل، تصبح ضجيجًا. هذه المدرسة في القيادة تُذكّر أن السياسة ليست عرضًا، بل مسؤولية، وأن الزمن خيرُ شاهدٍ على صدق المقاصد.
ليس الخطاب ما يُخلّد عهدًا، بل الأثر في حياة الناس. فالتاريخ لا يحفظ أسماء المتحدثين، بل إنجازات البُنّاة.
ما تُعلّمنا إياه اللحظة
الأسابيع الماضية كشفت عن مغربين: مغربٍ يركض بعجلةٍ لا تنتهي، وآخر يشتغل في صمتٍ لا يتوقف. وليس بينهما خصام، بل اختلافُ أفقٍ وزمن. الأول يريد كل شيءٍ فورًا، والثاني يصنع ما سيبقى غدًا.
وهنا تتجلّى نضجُ السياسة المغربية: في الجمع بين الإلحاح والصبر، بين النقد والولاء، بين الحماسة والبصيرة. فالحكم ليس وعدًا بإلغاء الزمن، بل فنّ التعامل معه.
أما الشباب، فصوتهم جزءٌ من هذا الزمن، لا خارجه. غضبهم مشروعٌ ما دام يتحوّل إلى اقتراحٍ لا إلى فوضى، وإلى مشاركةٍ لا إلى انسحاب. فالشارع يُنبّه، لكنه لا يحكم. والبناء يحتاج إلى زمنٍ أطول من صيحات اللحظة.
تلك هي الديمقراطية: حوارٌ دائم بين نبض القلب وإيقاع الزمن.
المغرب في استمراريته
يملك المغرب خصوصيةً نادرة: يتغيّر دون أن يفقد توازنه. تحت قيادة جلالة الملك محمد السادس، نصره الله، تعيش البلاد انتقالاتها بهدوء، وتُنجز إصلاحاتها بثبات. فالاستقرار المغربي ليس صدفةً جغرافية، بل ثقافةٌ سياسية تقوم على الاعتدال واحترام الزمن الطويل بكل ما يحمله من صبرٍ وتدرّج.
المؤسسات تعمل، والقوانين تضبط، والسياسة تُكيّف. منظومةٌ بشرية قد لا تكون مثالية، لكنها حية. قوتها في استمراريتها، وحكمتها في قدرتها على التجدّد دون القطيعة.
المغرب لم يحتج إلى ثوراتٍ ليُصلح نفسه؛ اختار ثوراته الصامتة وإصلاحاته العميقة، تلك التي تُغيّر في الجوهر دون أن تهدم الشكل، وتُعيد تعريف المستقبل من داخل الاستقرار لا من خارجه.
الزمن… مُعلِّمٌ كبير
"لِنُنظِم أمرَ الحاضر، وأما المستقبل فلكل مقامٍ مقال؛ فالوقت وحده كفيل، وهو المُعلِّم الكبير."
بيت كورنيي هذا يُختصر فيه ما نحن فيه اليوم. فالمغرب يُنظّم حاضره بثقةٍ في تاريخه، ويتقدّم نحو مستقبله دون خوفٍ من البطء أو إغراء السرعة. في عالمٍ تتقدّم فيه الانفعالات على القرارات، اختار أن يجعل من التريّث فضيلةً سياسية، ومن الاتزان أسلوبَ حكم.
الزمن، حين يُحسن استخدامه، لا يُبطئ التاريخ، بل يمنحه المعنى.
وفي صخب العجلة، يبقى صمتُ البنّائين هو اللغة الأصدق لمستقبل الأوطان.