تابعونا على فيسبوك
"من دون الثقة، لا يُبنى سلامٌ راسخ…"
تعيش الأمم، كما الإنسان، من خلال العلاقات. وكل علاقة، كي تدوم، تحتاج إلى ركيزة خفية لكنها حيوية: الثقة. فعندما تتآكل هذه الثقة، ينهار كل شيء. يتحوّل الحوار إلى صدام، والتعاون إلى شك، ويغدو السلام، في أحسن الأحوال، فاصل هشّ بين أزمتين.
وهذه الحقيقة تتجلّى اليوم بحدةٍ خاصة في منطقة الساحل، حيث بدأت الروابط بين الدول والشعوب والمؤسسات تتراخى، وتتوتر، بل وتنكسر أحياناً. المسألة لم تعد تتعلق فقط بالأمن، بل بمستقبلٍ مشترك مهدّد. فالمعاهدات وحدها لا تكفي، ولا التحالفات أيضاً. ما يجعل العلاقات تصمد هو ذلك الأساس اللاملموس، لكنه جوهري: الثقة ومن دونها، لا وجود لدبلوماسية. بل مجرّد حلول ظرفية، لا تصمد أمام أول اختبار.
ماذا تكشف لنا الثقة؟
استحضارنا لهذا القول لِبان كي مون (الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، دبلوماسي كوري جنوبي، مواليد 1944) — "من دون الثقة، لا يُبنى سلامٌ راسخ، لا داخل المجتمعات، ولا بين الدول" — لم يكن مجرّد تعبير عابر بل إعلان مبدأ. فالثقة هي البنية التحتية لكل سلام مستدام.
وغياب هذا السلام لا يُختزل في صراع أفكار أو توازنات قوى، بل يكشف، في عمقه، فشلًا في بناء العلاقة. وإذا خصصنا هذه الافتتاحية للساحل، فلأن هذه المنطقة تجسّد بحدة ما تُجسّد، بحدّة، النتائج المباشرة لانهيار الروابط.
وفي هذا السياق، جاء الحدث المفصلي يوم 6 أبريل 2025، حين أعلنت كل من مالي وبوركينا فاسو والنيجر عن سحب سفرائها من الجزائر، بعد أن أسقط الجيش الجزائري طائرة مسيّرة مالية قرب الحدود. واعتبر "تحالف دول الساحل" هذا الفعل انتهاكًا لسيادة دولة عضو، بينما ردّت الجزائر بإجراء مماثل وسحبت سفراءها، وأغلقت مجالها الجوي في وجه الطيران المالي.
لم تعد الأزمة توترًا دبلوماسيًا عابرًا، ولا خلافًا جيوسياسيًا تقليديًا، بل تحوّلت إلى تصعيدٍ يضرب جوهر العلاقة بين الدول. الثقة تتآكل، والحوار يُستبدل بالقطيعة. وهنا بالضبط يكمن الخطر: حين تغيب الثقة، لا يبقى شيءٌ على حاله.
علاقة عريقة، برؤية متجددة
لم يكتشف المغرب الساحل في هذا القرن. فالعلاقات التي تربطه بهذه المنطقة تمتد لقرون من مسارات القوافل القديمة، والتواصل العلمي، والتقارب الروحي والإنساني. من تمبكتو إلى غاو، لم تكن البصمة المغربية غزواً، بل إشعاعًا علميًا وروحيًا.
هذا التاريخ لم يُقطع. ربما تغيّر شكله، ربما خفت صوته، لكنه لم يتوقّف عن نسج العلاقة. واليوم، لا يزال مصدر إلهام لدبلوماسية مغربية متجذّرة، صبورة، بعيدة عن منطق التدخل والوصاية.
المغرب لم ينجرّ وراء التصعيد، ولا اختار خطابات الإدانة. بل اختار أن يتحرّك. بهدوء، وبثبات. لا يطلق الوعود، بل يبني. لا يعلّق، بل يتواصل. لا يفرض، بل يؤثّر. هذه ليست مجرد مواقف، بل امتداد لرؤية استراتيجية لقارة أفريقية متحرّرة، متضامنة ومتعددة الأقطاب.
في زمن التوتر، المغرب يختار الثبات
الأحداث الأخيرة كشفت أن التوتر في الساحل يتسارع. مؤخراً، أعلنت روسيا دعمها العسكري لحكومات مالي وبوركينا فاسو والنيجر، في خطوة أثارت قلقاً إقليمياً متزايداً. وفي فبراير، فكّكت الأجهزة المغربية خلية إرهابية تابعة لتنظيم "داعش" كانت تخطّط لاعتداءات داخل التراب الوطني، بارتباط مباشر مع الساحل.
في هذا السياق، لا يرفع المغرب صوته، بل يرسّخ حضوره. لا يصب الزيت على النار، بل يطفئها بالحكمة. يتبع منطق البناء لا المجابهة. يُكوّن الأئمة، يُواكب المؤسسات، يدعم الفلاحة، يشقّ الطرق. يصغي أولًا، ويتحرّك ليعيد بناء الثقة حيث انهارت الصلات.
اختيار التعاون
العلاقة، في أنبل صورها، تسبق الاقتصاد، وتتجاوز السياسة، وتتحدّى أحيانًا مجرى التاريخ نفسه. فالعلاقات بين الأفراد، والمجتمعات، والدول، هي ما يصنع التوازنات المستدامة. وعندما تنهار يسود الاضطراب. برتراند راسل (فيلسوف بريطاني، حاصل على نوبل للآداب سنة 1950، 1872-1970) قالها ببصيرة نادرة: "الشيء الوحيد الذي سينقذ البشرية هو التعاون".
والتعاون، لا يعني الخضوع، ولا التبعية. بل هو إدراك عميق بأن السلام لا يُفرض، بل يُبنى. ويُبنى عبر علاقات قوامها الثقة.
فنّ التحفّظ
الدبلوماسية المغربية لا تستعرض قوتها. بل تترسّخ بهدوء. تقوم على ثلاث ركائز: شرعية روحية وتاريخية تحظى باعتراف إقليمي، شراكات متكاملة بنهج رابح-رابح، وثبات في الموقف يتجاوز تقلّبات الأنظمة وتبدّل الحكومات. هنري كيسنجر (وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، الحائز على جائزة نوبل للسلام سنة 1973، 1923–2023) ربما كان ليقصد المغرب حين قال: "الدبلوماسية هي فن كبح القوة".
رؤية ملكية
من تكوين الأئمة، إلى مشاريع الفلاحة والطاقة والتعليم، إلى دعم أمني رشيد وفعّال، وصولًا إلى تمثيليات دبلوماسية متواصلة حتى في الدول التي تمرّ بمرحلة انتقال سياسي، يرسّخ المغرب التزامه العميق بالتعاون جنوب–جنوب، ضمن رؤية سيادية يقودها جلالة الملك محمد السادس، نصره الله.
في خطابه بتاريخ 6 نونبر 2023، بمناسبة الذكرى السنوية للمسيرة الخضراء، أعلن جلالته عن "المبادرة الملكية لتمكين دول الساحل من الولوج إلى المحيط الأطلسي" — رؤية مهيكلة لفكّ العزلة عن اقتصادات الداخل الإفريقي، من خلال إرساء ممرات لوجستية وتجارية وطاقية مستدامة.
وفي صلب هذه المبادرة، يبرز ميناء الداخلة الأطلسي كمشروع استراتيجي. ليس مجرد منشأة بحرية، بل بوابة تربط قلب القارة بآفاق العالم. نموذج للدبلوماسية المغربية: هادئ، ذات سيادة، ومتجذّرة في منطق الاندماج الإقليمي.
سيادة الرؤية
ما يجري في الساحل اليوم ليس أزمة عابرة، بل اختبار حقيقي. اختبار لمن يدّعون القيادة في إفريقيا، وإشارة واضحة إلى أن الكيانات التي تفقد روابطها، تفقد معها قدرتها على صياغة مستقبلها.
قد لا يُدرَج المغرب ضمن دول الساحل وفق التعريف الجغرافي الضيّق، لكنه يتقاسم معها التحديات، ويتفاعل مع رهاناتها، ويستشرف آفاقها. فالمصير لا يُفرض، بل يُبنى. علاقة بعد علاقة. فعلًا بعد فعل. في المدى البعيد، لا في اللحظة العابرة.
ومن هنا، لا تُختزل الرؤية المغربية في خطة ظرفية، بل تتجلّى كمسارٍ متكامل: رؤية للعالم، ووفاءٌ لتاريخٍ نتحمّل مسؤوليته، والتزامٌ بمستقبلٍ نطمح أن يكون على قدر الرؤية والطموح معًا.
تعليقات (0)